الجمعة، 28 يوليو 2017

الأقصى الإنسان والمقدس

                   ➖➖➖➖➖
*| الأقصى..الإنسان والمقدس
*✍| مــــحــــــــــمــــــد الـجـمــاعــي
➖➖➖➖➖

ظاهرة أتابعه منذ سبع سنوات، أحاول نقدها وتقويمها بين حين وآخر.. شباب يطرحون كثيرا من المسلمات على طاولة الشك، بل ويتجه بعضهم إلى إدخالها مباشرة ضمن دائرة الرفض، تلك الظاهرة التي جعلتني أوزع وقتي ما بين نقد المسلمات -بما أراه طريقة منهجية- حيناً، وبين نقد اللاعلمية في التعامل مع تلك المسلمات حيناً آخر.. لتلك الظاهرة أسباب كثيرة لعل أهمها ما وصل له أولئك الشباب من إحباط ويأس بعد أن ثاروا في الربيع العربي وقدموا من التضحيات ما ظنوه كافيا لإخراج هذه الشعوب من براثن العبودية والاستبداد والذل والإهانة والانحطاط، ولكنهم فوجئوا بالانتكاسة في منتصف الطريق!! ومن الأسباب كذلك ما يسرته التكنولوجيا الحديثة من تداول لأسئلة كانت مخفية تحت الطاولة لا يجرؤ أحد الحديث عنها، ثم خرجت دفعة واحدة بعد وجدت لها مناخا مناسبا، سواء كانوا خروجها بشكل طبيعي أم بشكل منظم تديره جهات تدفع بهذا الاتجاه في الوطن العربي، بحسن ظن أحيانا وبسوء ضمير أحيانا أخرى.

وبرغم صحية الظاهرة في مجملها لأنها تعيد البناء للمسلمات على أساس متين وتستبعد من دائرة المسلمات ما دخل دون استحقاق وتخفف وتيرة التعصب إثر ذلك، فما كان قويا ثابتا رسخته الأسئلة المثارة حوله، وما كان هشاً ركيكاً هزته رياح الأسئلة واقتلعت جذوره، وفي هذا من الفوائد ما يخفف عن العقل المسلم كثير من الأوهام والخرافات التي أعاقته عن النهوض، إلا إن تلك الظاهرة لم يصاحبها نقد مستمر لها لتقويمها، ولم يكن الشباب بالوعي الكافي للتعامل معها، فاستخدمها بعض الشباب بشكل خاطئ وسطحي مرات كثيرة، فحيث كان ينبغي أن يشك ويتساءل ويسأل ويبحث ويقرأ ويتأمل دون ضغوط خارجية أو داخلية قد تقيد حريته في الاختيار، اتجه مباشرة إلى الرفض! والرفض اختيار وحكم متسرع غير مبني على وعي وبرهان، ويدل على سطحية ونقص معرفي وضعف في المنهج العلمي عند صاحبه فتكون خطواته غير صائبة ومن ثم اختياره أيضا.

يتداول كثير من أولئك الشباب عبارات ترسخ مفهوما صحيحا، ولكن عند تنزيل تلك العبارة أو تطبيقها على حادثة بعينها يغفلون الفروق التي تجعل تلك العبارة غير منطبقة تماما على الحادثة، حتى وإن تشابهت في بعض زواياها، ربما هو التسرع وربما الوقوع تحت ضغط الجمهور، فربما أراد الشاب إظهار مدى اتساقه مع مبادئه، وربما أراد أن يظهر بمظهر العقلاني دون امتلاك أدوات العقلانية، وخاصة أن "مظهر العقلانية" يمكن أيضا أن يتحول إلى موضة حين يأخذ الشاب بقشورها ويترك روحها، فربما حققت له تلك الموضة بعض إثبات وجود، وهو وجود سيكتشف بعد وعي أنه كان زائفا، وأنه أخره عن الوصول للحقيقة درجة أو بضع درجات.
٢----------------------
لعل أبرز مثال خاض فيه الشباب مؤخرا هو قضية الموقف مما يجري في فلسطين من إغلاق للمسجد الأقصى، لقد ذهب الشباب مذاهب مختلفة، ولكن ما ينطبق على الظاهرة التي أتحدث عنها، هو رأي شباب لم يعد يعجبهم أو يقنعهم ما تربوا وعاشوا عليه من موقف سابق عاشته الأمة العربية كلها، وهو الرفض الكامل لما تعمله إسرائيل، والتعاطف والتضامن الكامل مع الفلسطينيين، استنادا لأكثر من سبعين عاما من التوحش الذي تقوم به إسرائيل منذ أن كانت عصابة لا تتورع عن عمل أي شيء مهما بدا منتهكا للأعراف الدولية والإنسانية، إلى أن صارت دولة أو كيانا معترفا به كدولة تصور نفسها للعالم أنها ديمقراطية ولا تنتهك حقوق الإنسان.

لن أتحدث عما عملته تلك الدولة خلال كل تلك المدة من انتهاكات جعلت أحرار العالم يتعاطفوا مع الفلسطينيين ويتخذوا مواقف بعضها أشرف مما قدمه العرب، وإنما سأتوقف عند منطقية تلك الأسئلة أو المفاهيم التي طرحوها حول الأقصى وفلسطين لنحاول أن نضعها في مكانها الصحيح.
ينتقد الشباب تقديم المقدس على الإنسان، في إشارة إلى أن الأقصى لا يستحق أن يتظاهر لأجله الفلسطينيون فربما سفكت دماؤهم من الجنود الإسرائيليين، ودماؤهم أهم من الأقصى.. بعض القائلين بهذا الرأي يقدم تنازلات عن مبادئه ووطنه وأمته، ويغلفها بتلك العبارات، بينما هو سيتناقض إن حصل ما يشبه ذلك في الغرب، يعاني هذا الفريق من علة في الضمير لا ينفع معها نقاشا أو تحليلا، ولذا سأمر عليه لأتجه للفريق الثاني الذي ربما غفل عن طبيعة المقدس وطبيعة التعامل معه، سواء تعامل المؤمن به أو غير المؤمن به، وغفل عن أبعاد الإنسان وحياته المعنوية، واكتفى بالنظر لحياته المادية، وغفل عن التسمية الصحيحة الدقيقة لما يقارن أو يشابه بينه، بل وفي غفلة كاملة عن نقد الآخر الجاني المعتدي، وإن حصل نقد له فعلى استحياء سريع، أو نقد يساوي بين الجلاد والضحية.

بداية ينبغي أن يعي أولئك الشباب أن كل شعوب العالم اليوم لهم مقدسات ومسلمات، حتى أكثر أولئك الشعوب تقدما، وإنما تختلف مسمياتها فقط، فمطلقات الكنيسة في القرون الوسطى بأوروبا، تحولت لمطلقات تحت شعار

ال دولة القومية الحديثة، وصارت الدولة بحد ذاتها مطلقا يتحكم بكل تفاصيل ا

لحياة، وصار العلم تلك الخرقة من القماش رمزا وطنيا للبلد يحترمه ويقدسه كل أبناء البلد، وصار النشيد الوطني شعارا وطنيا يجتمع في ترديده وتبجيله كل أبناء الوطن، وصارت المتاحف بما تحويها من تحف قديمة ورسومات ومعادن ومخطوطات ثروات قومية وتراث إنساني يحافظ عليها الإنسان الحديث درجة التقديس، ويضج العالم إن سرقت إحدى رسوماته القديمة.

تخيلوا معي لو أننا قلنا لهذه الشعوب يا لضيق عقولكم، أتجعلون من خرقة قماش وكلمات ملحنة وأحجار ومعادن وورق هذه القيمة الكبيرة، وتنفقون عليها ملايين الدولارات لحفظها وحمايتها، وصيانتها، ويضج إعلامكم أن فقدت قطعة واحدة متاحفها، فكيف لو دمر أو نهب كل ما في المتحف؟ توقفوا معي أولا عند تسمية تلك الآثار بالأحجار، هل هي أحجار وفقط أم أن اسمها آثار، وهكذا في بقية المسميات، هنا كان الخطأ الأول عند الشباب في تسميتهم للأقصى كمسجد أثري قديم يؤمن بقيمته مئات ملايين المسلمين بالأحجار فقط.. لا أظننا سنسمي إهرامات مصر بالأحجار لأنها ستكون تسمية ساذجة تغفل تاريخ وحضارة وراء ذلك الحجر، ولا أظن أيضا سيكون موقفنا سلبيا إذا حصل شيء لمتحف اللوثر بفرنسا !! هذه إحدى التناقضات التي يقع فيها هؤلاء الشباب في زحمة الوعي المتناقص تحت ضغط الإعلام العالمي
٣----------------------
نقطة ثانية تغيب في هذه القضية، وهو أن ما يؤمن به الإنسان لا ينفصل عنه، وإنما هو تحت دائرة حرية اختياره، والدفاع عن ذلك دفاع عن حق حريته لا عن المقدس ذاته، فالأوروبي الذي يدافع عن الأقصى طوال عقود مضت لا يعني أنه يقدسه، وإنما هو يفعل ذلك حماية لحرية الإنسان الفلسطيني في اختيار ما يريد من اعتقاد ما دام لا يعتدي على أحد.. فيوجه نقده الشديد ضد من ينتهك حقا من حقوق الإنسان وهو "حق الحرية"، وهذا ما كان ينبغي أن يقوم به أولئك الشباب الذين لا يؤمنون بأي مقدس ديني، فتضامنهم ليس لأجل المقدس ذاته وإنما لحرية الإنسان في اختياره، وكان هذا هو الأولى بهم حتى يضمنوا ترسيخ "حق حرية الاختيار" التي ربما بسببها عانوا كثيرا من مجتمعاتهم، فبدل أن يرسخوا ذلك الحق، ذهبوا في سذاجة لطعنه.

جميل أن نخضع كل مقدس للنقد، ولكن هذا يكون في مقام آخر لا وقت أن يكون الضحية تحت سياط الجلاد، وعلى أحسن حال يمكن أن يترافق النقد والإدانة كل بلغته المناسبة.

ربما وضح بعضهم رأيه بدرجة أكثر، فقال أنا أقدم حفظ حياة الإنسان على أن يضحي بها من أجل الأقصى، وفي هذا الرأي غبش كثير يحتاج إلى تفصيل، لا شك أن "حق الحياة" هو أهم حقوق الإنسان، وكل الحقوق تأتي دونه، فيقدم كل ما يحفظ حق الحياة على غيره، وهذا حق أكده الدين ورسخه، وجعل من الكفر الظاهري في حالة الإكراه مخرجا لمن سيقتل على دينه، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في الموضوع، ما بال كل شعوب العالم وعلى مدار التاريخ كله تضحي وتقاتل وتقتل؟ هل استرخصت حق الحياة؟ وهل كل مقاتل على باطل؟ وهل كل من يقتل كان خاطئا؟ ولماذا تقاتل الجيوش دفاعا عن أوطانها إذا احتلت؟ ولماذا يقاتل الإنسان من اعتدى عليه أو أخذ ماله أو سلبه حريته وكرامته؟ ولماذا تقاتل الشعوب من انقلب على سلطتها؟ هل الأرض أو المال أو الحرية أو الكرامة أو السلطة أهم من حياة الإنسان؟ ربما هناك خيط فُقد فهمه فأدى إلى ذلك اللبس الذي جعل هذه الأحداث تظهر متناقضة مع ذلك المبدأ، وهو مبدأ التقديس لحياة الإنسان أولا..

ذلك الخيط هو أن للإنسان حياة معنوية بجوار حياته المادية، فإذا فقدت حياته المعنوية لم يعد لحياته المادية معنى، فسلب حريته وكرامته وماله ومقدرات عيشه يعني انتهاء حياته المعنوية، لذا وبعد موازنة منه رأى أن لا قيمة للحياة المادية وأن عليه أن يناضل لعودة حياته الحقيقية حتى لو اضطر بأن يضحى بنفسه لمبادئ تلك الحياة لينقذ بتضحيته أمة من الناس بعده، وهنا لا يحق لنا أن نقول له "حياتك أولا" لأنه فقد مقوماتها كحياة حقيقية، إلا أن كان في إبقاء حياته تموضع آخر للعودة من جديد أو انخفاض مؤقت للريح فلا بأس بذلك، وكل ذلك يقدره بنفسه وعلينا احترام خياره ما دام في موقف المعتدى عليه لا المعتدي.
٤--------------------------
نقطة ثالثة جاءت في سياق هذه القضية، وهو أن جيلا نشأ على أعمال بشعة تمارسها الأنظمة العربية ضد شعوبها، وفي نفس الوقت يرى ما تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين فيقارن بينهما فيظهر له أن إسرائيل أقل وحشية وربما قال: أكثر إنسانية !! وهذا قد يجعله بلا موقف أخلاقي ضد انتهاكات إسرائيل، أو أنه صار يرى انتهاكها بردا وسلاما بجوار انتهاك الأنظمة العربية، فقال: ليقبلوا بإسرائيل كيفما كانت، أو ربما رجح أن هناك أولوية على تلك القضية هي قضية بلده مثلا، وهنا يقع في تسطيح القضية من عدة زوايا، أو يرى أن القضية صراع ديني لا شأن له به..

أولا: إسرائيل التي يراها اليوم ولم يرها قبل ذلك خففت من وحشيتها قليلا بعد تضحيات أجيال من الفلسطين
يين، وإلا فقد مارسوا أبشع الجرائم من قبل ومذابحهم شاهدة ويعرفها كل فلسطين

ي، ولو جمعنا تلك الجرائم في كتاب لعرفنا ميزانها الصحيح، ثم إن إسرائيل صارت تبرز نفسها كدولة ديمقراطية تراعي حقوق الإنسان، وتخشى أن يؤثر ذلك عليها عالميا، وخاصة أنها دولة جاءت على أنقاض شعب قتلته وشردته، ولا زال أحرار العالم يرونها كذلك.

أما كون القضية دينية فهذا ما قامت عليه إسرائيل أساسا وهذا ما تردده ليل نهار، فإسرائيل جاءت لتحتل فلسطين عبر أحلام توراتية، وتريد إنشاء دولة يهودية خالصة استنادا لتلك الأحلام، وكان الأولى أن يوجه هذا النقد لها، لا إلى الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه ومقدساته، وإن وجد في الدين ما يحثه على الدفاع عن نفسه ووطنه، ولو كانت القضية دينية تخص المسلمين لما خرج الفلسطيني المسيحي بجوار أخيه المسلم في الدفاع عن قضية واحدة تجمعهم هي  الوطن المغتصب..

ثانيا: هذا المنطق في المقارنة لا يصح عند التضامن والدفاع عن الحقوق والحريات، لأن قياس أي قضية على ما هو أعظم منها سيفقدنا إعطاءها حقها من الاهتمام، وبهذا لن نتضامن مع أي قضية، وسنخسر بالمثل أي تعاطف معنا إن تم استخدام المنطق نفسه، ثم إن ذلك قد يكون تبريرا خفيا للانتهاكات ما دام هناك أكبر منها، والجريمة لا تسقط إن وجد ما هو أعظم منها، ولسنا في حالة تعارض حتى نقدم واحدة على أخرى، وإنما نستطيع إدانة الانتهاك الصغير والكبير..
صحيح أن الانظمة العربية المتوحشة هي أسوأ في هذه اللحظة من إسرائيل ولكن لا يقال ذلك في سياق الدعوة لمزيد من التنازل لإسرائيل..

ثالثا: لو رأينا لقضية فلسطين من زاوية أوسع ترى أبعاد القضية، لعرفنا عمقها وأهميتها وأنها فوق ذلك صارت رمزا لنضال العربي لأجل الحرية والكرامة والديمقراطية، ضد نموذج مكثف لضباع هذا العالم الذي يقف ضده متمثلا في إسرائيل، هذا العالم الذي يرى في هذه المنطقة سوقا للاستهلاك أو ثروة لا يستحقها أهلها، والحرية والديمقراطية ليست لائقة عليه.

رابعا: إن ترجيح تضامنه مع قضية بلده مع التخلي عن القضايا الأخرى منطق ساذج، لأن الموقف الأخلاقي لا يحتاج تأجيلا ولا يكلف جهدا، فهو ليس أكثر من سطور يكتبها على صفحته في الفيس مثلا

الخميس، 27 يوليو 2017

الإمارات في اليمن

المأزق الإماراتي في اليمن

✍مــحــمــد الـــجــــــمـــاعـــــــــــي
20 يوليو 2017

لم تجد أبو ظبي نفسها في مأزق حقيقي في اليمن كما وجدته اليوم، فقد كانت تظن أنها سوف تتحكم بتوجيه مسار الأحداث في اليمن على نحو ما يستقر من قناعات لدى رجلها النافذ والمهووس بالسلطة محمد بن زايد، الذي يعتقد بأن محاربة "الإسلام السياسي" مقدم على أي أولوية أخرى لديه ولدى أبو ظبي والإمارات بشكل عام، ليس في اليمن فقط، بل في الوطن العربي والعالم الإسلامي كله.

وضعت الإمارات بيضها في السلة الأمريكية التي تعتبر أن مهمة مكافحة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية في اليمن في رأس أولوياتها، وتفصل مواقفها على مقاس رد فعل الأطراف الداخلية والخارجية من مهمة كهذه، وتقوم بتصنيف اللاعبين الداخليين على أساس قربهم من الأهداف الأمريكية واتساقهم معها.

لكن الذهاب خلف الأولويات الأمريكية كما تفعل أبو ظبي يعني تجاهلا يصل حد الصفاقة، لدور السلطة الشرعية التي تحتكم في إدارتها للسلطة الانتقالية إلى مرجعيات أساسية ومعتبرة، تشمل اتفاق المبادرة الخليجية وآليته التنفيذية، وقرارات مجلس الأمن الدولي، ومخرجات الحوار الوطني.

وأثبت الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي أنه مستعد للدفاع عن خياراته وعن مشروعه الذي لا يخرج عن هذه المرجعيات ولا يحيد عنها، حينما رفض مبادرة كيري، التي قدمت منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي.

وكان قد أقال حينها خمسا من أهم الشخصيات القيادية الحكومية والمحلية التي كانت تعتمد عليها أبو ظبي في تمرير مخططاتها في المحافظات الجنوبية، ويبدو أن الرئيس هادي يلقى تأييدا من القيادة السعودية، التي لا يروق لها إطلاق يد أبو ظبي في جنوب اليمن، دون تقييد يسمح بالإبقاء على مصالحها مصانة في هذه المنطقة المهمة من جنوب الجزيرة العربية.

لكن ذلك أيضا لا يُبقي الرياض في منأى عن شبهة الترتيبات الإماراتية وغاياتها النهائية، خصوصا وأن جانبا من هذه الترتيبات المتعلقة بإمكانية إعادة إنتاج نظام المخلوع صالح باتت توجها مشتركا لكل من أبو ظبي والرياض.

مأزق أبو ظبي على علاقة مباشرة بتداعيات الأزمة الخليجية التي فجرها محمد بن زايد، أملا في تحييد قطر وإخراجها من المشهد، وإنهاء تأثيرها في الترتيبات التي يحتفظ بها حيال أزمات المنطقة المختلفة من اليمن وحتى ليبيا.

وهذا التأثير يأتي من زاوية الانكشاف غير المتوقع لهذه الترتيبات التي يمكن وصفها بأنها سيئة للغاية، حيث تمول أبو ظبي تحركات أطراف انفصالية متطرفة في اليمن، تسعى إلى فصل الشمال عن الجنوب، وتتورط القوات الإماراتية في بناء شبكة من السجون والمعتقلات السرية، التي تمارس فيها انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان، وتسخرها للمحققين الأمريكيين.

وتقوم عبر هذه السجون والاعتقالات المتواصلة، باستهداف سياسيين وناشطين وشباب ممن يثبت أن لهم صلة بمشروع الدولة اليمنية الاتحادية، وممن يتبين انتماؤهم للتجمع اليمني للإصلاح، الذي تصنفه أبو ظبي على أنه الذراع السياسي للإخوان المسلمين في اليمن، إلى جانب التيارات السلفية التي لا تتعاطف مع المشروع الإماراتي.

وتتورط أبو ظبي في بناء نفوذها الخاص في المحافظات الجنوبية، عبر إنشاء القواعد العسكرية، خصوصا القاعدة التي تقوم بإنشائها في جزيرة ميون الواقعة في مضيق باب المندب، إلى جانب تورطها في إنشاء تشكيلات شبه عسكرية بقيادات ميلشياوية مناطقية، ما يهدد بإعادة إنتاج دورات أكثر عنفاً من الحروب الأهلية في جنوب البلاد كتلك التي شهدها في 12 كانون الثاني/ يناير 1987.

وإلى جانب ذلك، تواصل أبو ظبي فرض هيمنتها ونفوذها في أرخبيل سقطرى ومحافظة المهرة، وهما محافظتان ظلتا بعيدتين عن الصراع والحرب الدائرة، وكان يفترض أن تترك أمور إدارتهما للسلطة الشرعية، لكن الإمارات عملت على تهميش السلطة الشرعية وتنصيب مسؤولين على علاقة بها وبالمجلس الانتقالي الجنوبي (انفصالي) الذي دعمت إنشاءه بعدن في أيار/ مايو الماضي.

وتحاول جاهدة إنهاء النفوذ التقليدي لسلطة عمان في محافظة المهرة التي تستأثر بكل خط الحدود الفاصل بين اليمن وعمان، وتحتفظ في بعلاقات اجتماعية واقتصادية خاصة منذ زمن بعيد، بحكم تشابه العادات والتقاليد والتشابه في اللغات المحلية المحكية وهي بقية من اللغة اليمنية القديمة، ومنها ثلاث لغات، تتوزع على سقطرى والمهرة اليمنيتين وعلى إقليم ظفار العماني.

حالة الانكشاف هذه التي ساهم فيها إعلام قوي تتقدمه قناة الجزيرة دفع بأبو ظبي والتحالف إلى تبني سلسلة من الإجراءات لتبييض سمعتهم في اليمن.

فقد جرى تصعيد العمليات العسكرية في الساحل الغربي، وتم تحريك الزيارات الميدانية لكبار المسؤولين في الحكومة لمحافظات ظلت في إطار الإهمال المتعمد مثل محافظة تعز، التي زارها قبل أسبوع تقريبا وفد حكومي مكون من ثلاثة وزراء هي الأولى من نوعها منذ بدء الحرب.

وفي السياق ذاته، زار رئيس الوزراء اليمني الدكتور أحمد عبيد بن دغر، قاعدة العند في محافظة لحج، وما وصفت بأنها الجبهات المتقدمة للجيش الوطني في هذه المحافظة، ويقصد بها خطوط التماس التي تفصل بين كل لحج وتعز.

خلال زيارة قاعدة العند العسكرية التقى رئيس الوزراء قيادات التحالف العربي، وقد لوحظ أن البيان الرسمي الذي بثته وكالة الأنباء اليمنية، عكس وجود إيعاز من جانب أبو ظبي على ما يبدو لاستغلال هذا الاجتماع من أجل تمرير رسالة على لسان قائد قوات التحالف العربي في عدن العميد الإماراتي أحمد أبو ماجد في إعادة توضيح دور ومهمة التحالف العربي في اليمن عندما.

فقد أكد "أن مهمة قوات التحالف العربي هي الحفاظ على الشرعية الدستورية وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي والمرجعيات الأخرى، وهزيمة العدو ممثل في مليشيات الحوثي وصالح الانقلابية، ودعم البنية التحتية لليمن".

فهل يكفي هذا لإقناع اليمنيين بأن أبو ظبي تزرع الياسمين في أرضهم، وهم يرون هذا الكم من المؤامرات التي تحيكها ضد وجودهم وأحلامهم

القرصنة من البحر إلى الإعلام

القرصنة من البحر إلى الإعلام

✍محمد الجماعي
20 يوليو 2017

أُسدل الستار مؤخرا عن مصدر عملية القرصنة التي أشعلت أزمة الخليج الراهنة وأدت إلى حصار دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي بر ا وبحرا وجوا. فقد أثبتت نتائج البحث الذي قام به مكتب التحقيقات الفدرالية تورط دولة الإمارات في قرصنة وكالة الإعلام القطرية وتزوير التصريحات المنسوبة لأمير البلاد. المصطلحات المتداولة لتوصيف العملية هما أساسا مصطلحا القرصنة والاختراق وكلاهما يؤشر على عمل عدواني لا يخرج عن إطار العمليات العسكرية التي تنفذها دولة ما ضد دولة أخرى.

فالاختراق عملية تجاوز حدود مجال سيادي ما بواسطة وسائل غير مشروعة عادة من أجل المساس بسيادة المجال وتحقيق أهداف خارجية عدوانية. الاختراق مصطلح لا يخلو من دلالة تجاوز القانون لأن الخرق هو نفسه عملية طعن في القانون وتجاوز له. أما القرصنة فعملية حربية بامتياز كانت بأعالي البحار ولا تزال ساحات لها وآخرها بحار الصومال التي لا تزال تشهد عمليات قرصنة وخطف لبواخر تجارية تعبر بحار المنطقة. فخطف البواخر والسطو عليها واعتقال طواقمها ثم طلب الفدية هي سلسلة المراحل التي تمثلها عملية القرصنة نفسها.

خطورة قرصنة الوكالة القطرية للإعلام لا تتمثل في العملية نفسها بما هي عمل عدواني ينتهك سيادة دولة مستقلة بقدر ما تتمثل خطورتها في ما انجرّ عنها من تداعيات خطيرة كادت تقود المنطقة إلى حرب عسكرية كارثية. فالتصريحات التي تم إلصاقها بالسلطات القطرية كانت الأساس الذي بُني عليه مشروع الحصار وكانت كذلك نقطة البداية لمشروع كبير كانت قطر محورا من محاور ترسيمه.

لكن اللافت الأكيد هو الانكشاف الكبير للمشهد الإعلامي لدول الحصار وخاصة بالنسبة للإعلام الإماراتي والسعودي لأن الإعلام البحريني لا يكاد يذكر، أمّا الإعلام المصري فقد خرج منذ مدة من إطار الإعلام ليتحول إلى أداة لبث الفتنة وشيطنة الخصوم بشكل لا يكاد يصدّق أحيانا.

الإعلام كان منذ البداية في قلب المعركة الخليجية لأن عملية القرصنة طالت مؤسسة إعلامية رسمية بشكل يكشف معطيات هامة منها:
إن انطلاق الأزمة من بوابة الإعلام يعكس أهمية استقطاب الرأي العام الخليجي والعربي في هذه المعركة لأن التقارير والمقالات التي أعقبت عملية القرصنة بساعات قليلة تؤكد أن العملية كانت مرتبة بشكل متناسق يقع المتتبع الخليجي في قلبها. المعطى الثاني يتمثل في غياب أسس حقيقية للأزمة أي أن كل التهم التي وجهت لدولة قطر من تهم بدعم الإرهاب وتمويل الجماعات الإرهابية وبث الفتنة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول إنما هي تهم واهية لأن مصدر الأزمة هو مصدر إعلامي بُني على ادعاءات باطلة.

أما الحرب الإعلامية التي اندلعت بعد عملية القرصنة والتي جندت لها دولة الإمارات إمكانيات هائلة وتبعها الإعلام السعودي بعد ذلك فقد كانت مؤشرا هاما على أن دور الإعلام كان دورا محوريا في انطلاق الأزمة وفي تطورها بعد ذلك.

مؤشر آخر هام على أن الإعلام لم يكن فقط مصدر الأزمة وأداتها الرئيسية بل إن الشروط التي وضعتها دول الحصار تتضمن استهدافا لمنبر إعلامي هام هو قناة الجزيرة.

قناة الجزيرة شملها الحصار وطالب المحاصرون بغلقها وهي أول مرة تطالب فيها مجموعة من الدول بغلق قناة تلفازية كشرط من شروط فك الحصار عن دولة أخرى. قد نختلف مع قناة الجزيرة ومع خطها التحريري لكن من غير المتعارف عليه في العلاقات بين الدول المطالبة بغلق قناة تلفازية في دولة أخرى. صحيح أن القناة مثلت كابوسا حقيقيا لدول النظام الاستبدادي العربي قبل الربيع وبعده لكنها قناة لم تغادر الإطار المنظم لحرية التعبير ولاحترام الرأي والرأي الآخر وهو ما تؤكده السمعة العالية التي تحظى بها القناة في المحافل الدولية أو مجموع الجوائز التي حصدتها خلال تاريخها القصير مقارنة ببقية المنابر الإعلامية.

معلوم أيضا أن مجموع القنوات التي خرجت للمشاهد العربي سواء العربية منها أو الناطقة بالعربية إنما جاءت بهدف قضم نسب مشاهدة القناة التي تحولت سريعا إلى قصة نجاح نادرة في المحيط الإعلامي العربي. قنوات سكاي نيوز والعربية وروسيا اليوم وبي بي سي العربية وفرنسا أربعة وعشرون ... كلها قنوات جاءت بعد قناة الجزيرة من أجل الحد من الوعي الذي تنشره القناة والذي صار مهددا لوجود النظام الاستبدادي العربي نفسه.

الإعلام إذن محور رئيسي من محاور أزمة الخليجية الراهنة لأنها انطلقت منه عبر قرصنة الوكالة القطرية للإعلام ثم تطورت عبره من خلال الحرب الإعلامية التي لا تكاد تتوقف ثم هي تستهدفه أخيرا عبر مطلب غلق قناة الجزيرة. بناء عليه يمكن القول أن المستهدَف الأساسي من الأزمة الراهنة هو وعي الإنسان العربي بما أن الإعلام هو أحد الروافد الأساسية لهذا الوعي.

إن شيطنة قطر وترويج كل التهم الباطلة ضدها والتي ثبت بالدليل والبرهان زيفها إنما تمثل محاولة لقرصنة الوعي العربي الجديد الذي اشتد عوده بعد ثورات الربيع السلمية. لقد رفضت قطر الاعتراف بالانقلابات العسكرية ورفضت ذبح ثورات الشعوب والتآمر عليها ومثلت الجزيرة منبرا للوعي الجديد ومساحة للتعبير عن الرأي الحر مهما كانت مشاربه وخلفياته وهو ما حرك ضدها كل أجهزة الدولة الاستبدادية العميقة التي تحاول اليوم خنقها ومحاصرتها.

إن انكشاف حجم الجريمة اليوم لا يقتصر على تبرئة دولة قطر من كل التهم المنسوبة إليها سواء اتفقنا مع الدور القطري أو اختلفنا معه، لكنه يعري كابوس النظام الرسمي العربي وجرائمه في حق الثورات السلمية المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية. الوعي لا يموت ولا يندثر بغلق قناة أو محاصرة دولة بل هو يبقى حيا قائما ثابتا يتجدد إلى حدود اللحظة التي يحقق فيها المطالب التي من أجلها نشأ وتطور.